قصة بقلم حبيبة أحمد
الفصة
جلستُ بالقطار مُفعمًا بالأمل، ها قد انتهت الحروب المُنهكة، أزحت تلكَ الأفكار التي غزت عقلي لأُخرج تلكَ الصورة ذات الملامح المُشوهة من جيبي، ابتسمت حينما تأملت وجهها البريء، فهي طفلتي التي غادرت والدتها الحياة منذ سنوات فلم يبق لي غيرها، بللت بعض دمعاتي الورقة التي أحملها فقد اشتقت لتلكَ الصغيرة، جلس أحدهم بجواري فلم أعط الأمر اهتمامًا جمًّا حتى لمحت شبح دموعه التي سقطت حينما تطلع نحو الصورة التي بيدي، سألني بابتسامةٍ مُتألمة:
- ابنتك؟
أومأت موافقًا فزادت بسمته ليرفع رأسه مُظهرًا بذلك التجاعيد التي غزت وجهه ليقول:
- لدي ابنةٌ أيضًا، لكنها لم تعد تعتبرني والدها!
تعجبت لكنه أكمل بكسرةٍ تجلَّت بنبرة صوته:
- طُردت من عملي وبدأت حالتي تتدهور للسيء فالأسوأ، لينتهي بي الحال مُتسولًا للعمل من الجميع، ولم يرأف أحدهم لحالي.
صمت لوهلة ليتنهد تنهيدةً حارةً مُعبرًا عن الألم الذي لاقاه ليقول:
- وبما أن الرياح لا تأتي دومًا بما تشتهيه السُفن هجرتني زوجتي وتركت معي ابنتي التي لم تكن قد أتمت عامها الخامس حينها، ثم ما لبثت أن تزوجت برجلٍ ثريٍ تاركةً خلفها رماد فؤادي الذي حطمته وطفلةً قد أصابها الهجر بفقدانها للنطق أبد الدهر!
شعرتُ بدمعته التي سقطت من مُقلته ليتابع بعدها بألم:
- كافحت لأحصل على لُقمة العيش حتى اقترب موعد دخولها للمدرسة لعامها السابع وازدادت التكاليف، تكفلت بأمور مدرستها حتى بتُ لا أملكُ قرشًا، كانت كباقي الأطفال تطمح لتحصل على أدواتٍ دراسيةٍ وزيٍ جديد، كانت نظرات الحرمان في عينيها جليَّة لدرجةٍ أشعرتني بتأنيب الضمير، عُدت لأبحث عن عملٍ آخرعلني أستطيع منحها ما تفقده، لكنني لم أجد، وبينما كُنت عائدًا بخيبتي تلكَ وجدت إحدى النساء، كانت تبدو من طبقة الأغنياء، تسولت منها طالبًا المال فرفضت، فاستغللت انشغالها لأسرق حقيبتها وأركض مُتجها نحو مكانٍ لا تعرف فيه مكاني، عُدت لمنزلي وكدتُ أن أنام على أمل أن أضيف لملامح بُنيتي بعض البهجة، إلا أنَّ تأنيب ضميريّ لم يذقني طعم النوم، وبينما أنا هكذا حتى صدع صوت رجال الشُرطة الذين حاوطوا المكان فعلمتُ بأنني كُشفت، خرجت للخارج مُسلمًا ذاتي، استأذنتهم بأن أودع الصغيرة ففوجئت بأنها ترفض الاقتراب مني مُشيرةً إلى الأغلال التي بيد الشرطي بفزعٍ لتنعتني بالسارق، حاولت امتصاص غضبها إلا أن الوقت لم يُسعفني ولم أرّ وجه ابنتي بعدها؛ فلم تأتِ لتزورني وأنا قابعٌ في زوايا السجن.
لم أستطع أن أجيب، فسألته:
- خارجٌ من السجن؟
ابتسم ابتسامة هادئة ليومئ مُؤكدًا على حديثي، ثم قال مُتسائلًا:
- كم عُمر فتاتكِ؟
فأجبته بحماس:
- ستُكمل عامها العاشر غدًا، ولهذا أحضرت لها زيّ مُمرضة، فطفلتي الذكية تطمح بأن تكون مُمرضة في المُستقبل.
قال ببسمته المُعتادة:
- ليكن، لتُحقق أحلامها البريئة.
بادلته الابتسام وأنا أقول:
- وأنت.. لا تقلق، ابنتكَ تُحبك ولهذا تصرفت هكذا، لم تتوقع بأن يكون أباها سارقًا، لكنكَ ستستطيع تحطيم الحواجز التي نشأت بينكما بالتأكيد.
ابتسم بتكلفٍ ولم يُجب، فأخرجت من جيبي ورقةً لأقول:
- رقم هاتفي، اتصل بي متى أردت، يكفي أن لا تفترق عن الصغيرة.
أخذ الورقة مني بامتنانٍ وهو يقول:
- لن أفعل، فتلكَ النظراتُ التي ألقتها طفلتي إليَّ كفيلةٌ بجعلي معصومًا عن أي خطأٍ قد يجعلني سيئًا بنظرها.
توقف القطار قاطعًا حديثنا؛ فودعته وأنا أذهب لبوابة القطار مُتمنيًا له الحظ، خرجت للخارج وأنا أبحث عن طفلتي، فوجنتها تُلوح لي من البعيد، ابتسمتُ ثم انطلقتُ نحوها ضامًا إياها ومُبددًا شوقي، شردتُ حينها فقط، ماذا قد يكون حليف ذاكَ الأب الذي رأيته منذ لحظات؟ أسيحتضن ابنته هكذا أم أنه سيكون مُجرد حُلمٍ بالنسبة له؟ أفقت من شرودي على صوت صغيرتي وهي تقول:
- أبي، هيَّا لنعد إلى منزلنا، مُتحمسةُ لأرى مُفاجئتك.
قبلت جبينها بحنانٍ ثم انطلقنا للطريق.
-حبيبة أحمد
إرسال تعليق